حدائـق ذات بهجـة
إن باطن الإنسان حديقة؛ هي حديقته التي يغرس فيها ما يشاء من الأخلاق والصفات متحليا بأوصاف الطبيعة مستدلا بدلائلها، أو متنكرا لها نائيا بجنبه عنها
فليغرس فيها الحب إن أراد أو ليغرس فيها الغل والحقد. ليغرس فيها الصدق أو ليغرس فيها النفاق والكذب. ليغرس فيها الكرم أو ليغرس فيها الطمع والجشع
وسوف تصطبغ بما يغلب عليها من ألوان؛ إما زاهية فاتحة أو داكنة قاتمة. ستكون على الصورة التي اخترناها لها؛ إما متفتحة مزهرة كورود الربيع، أو ذابلة ناصلة كأوراق الخريف
*******
وليكن كل منا كما يريد وليختر لنفسه الطراز الذي يريده كما يختار لهيئته طرازا خاصا من بين أصناف اللباس. وسوف يستحسنه الناس بقدر ما يجعل في ثوبه الظاهر والباطن كليهما من حسن وجمال وأناقة
والناس على طُرُزٌ مختلفة ومساعٍ شتى حسب ما تنزع إليه طبائعهم وتقضي به نفوسهم.. فمنهم من يستهويه مد يد العون للناس والسعي في حاجاتهم والتخفيف من أعبائهم بما يسنح له من أمور مادية ومعنوية، يفعل ونفسه مزهوة بذلك ووجهه مبتسم
ومنهم من يبتغي ملاطفة الناس والتودد إليهم بالكلمة الطيبة والقول الحسن، والتسلية عما في نفوسهم من ضيق وكمد فتراه مداعبا ممازحا، دائم البشر
ومنهم من يرضيه أن يعطي من ماله وطعامه وكسوته لمن كان محتاجا أو فقيرا، تجده في بحث دائم عن مثل هؤلاء ويفرحه لجوءهم إليه
ومنهم من يبهجه أن يبث في عقولهم حكمة ويزرع في قلوبهم علما وهداية
ولعمري إنها لنفوس جميلة تستبشر بأعمال البر والخير وتسارع إليها كمن يستبشر بقدوم الربيع ويسارع إلى استقباله بالانبساط والفرح
*******
إننا عندما نكون إزاء صورة من تلك الصور الإنسانية، يغمرنا إحساس دافىء وغزير بالجمال! فما يزخر به عالم الفضائل وجماليات النفس من تواضع وإيثار وصدق وأمانة وعفو وتسامح وسخاء وكرم وعدل وإحسان، يعادل صور الطبيعة إشراقا وجمالا وتنوعا كريما
فما أجملها من نفس تلك التي تزدان بصفة من تلك الصفات، وما أروعها من نفس التي تجتمع فيها كل هاتيك الحُسنيات
وما أقبحها من يكون صاحبها على عكس تلك الصفات الجميلة والأخلاق الحسنة وشتان بينهما
شتان بين من يزرع الورد بالقول الحسن والفعل الخيّر الجميل ومن يزرع الشوك يؤذي به غيره ونفسه. شتان بين من يقذف النور في القلوب بالعلم النافع والنصيحة الطيبة ومن يقذف الدخان والنار
شتان بين من يحيي النفوس بالصدقة وقد كاد يسلبها الفقر بهجة الحياة: ذاك هو الكريم. ومن يحيي العقول بالعلم وقد كاد يقضي عليها الجهل: ذاك هو العالم. ومن يحيي الأبدان بالعلاج وقد كادت تقتلها الأسقام: ذاك هو الطبيب
*******
شتان بين هؤلاء وبين من يقتلون النفوس ويكيدون المكائد. وشر أولئك مكانة الذين اتخذوا من الجبال بيوتا ليبيّـتوا فيها خططهم المشينة ضد الطبيعة والناس؛ يطلبون الأمان لنفوسهم باحتمائهم بها ويهددون أمن الناس بضربهم في عقر دارهم وهم أمنة نعاسا! ويستترون بظلام الليل وقد بات سرمدا في نفوسهم بعد أن انطمس النور من قلوبهم وغشا ضمائرهم عتمة فأضحوا لا يرون شمسا ولا نورا، ولا خضرة ولا جمالا! قد زين لهم الشيطان عملهم فرأوه حسنا، والتبس عليهم الجميل والقبيح فما عادوا يميزون الخبيث من الطيب من الأعمال
إن أسوء السوء أن نظن بأنفسنا الخير ولسنا على شيء، وأن نرى فعلنا جميلا ويراه الناس قبيحا
وإنما نرى الأشياء بعين القلب. فكما لا يبدو ما تحت الماء إلا بصفاء الماء، كذلك لا يرى القلب حقائق الأمور إلا إذا كان صافيا من خبيث النيات وسقيم الأهواء
إن حبة الفاكهة لا يكتمل جمالها إلا إذا كانت سليمة لا علة فيها ولا فساد
فحريّ بالإنسان أن يعمل على تطهير قلبه من الأحقاد والضغائن، وأن يحرص على تصفية فكره من الشكوك والأباطيل حتى ما ترد على قلبه من خَطرة ولا على ذهنه من فكرة إلا وتكون إيجابية خالصة من اعتلالات النفس ودرن الهوى
*******ما من صفة في النفس إلا وتنعكس على سلوك صاحبها كما ينعكس لون السماء على صفحة البحر. بل وعلى قسمات وجهه أيضا. فترى سيئ الخلق وجهه متجهما مسودا بينما تجد لحسن الخلق نضارة وربما لم يؤت حظا من الوسامة
إن امرءا عندما يفصح عن حال نفسية ملؤها الفرح والاغتباط والبشر ترى في وجهه تفتحا وإشراقا؛ كأن ما يملأ قلبه قد ارتسم على ملامح وجهه
تراه وهو يتوجه بالشكر الجميل لمن أجزل له العطاء، أو يعد وعدا صادقا بالإحسان إلى من جاء يستجوده، يستنير وجهه بنور تلك المشاعر الطيبة الجميلة التي تتحرك بداخله
تحياتي عصام فوده